الخميس، 10 أغسطس 2017

التقليد الشرعي..بين الدوافع النفسية والدليل

من الدوافع الغريزة في حياة الإنسان ..البحث عن المعرفة والعلم؛لما فُطر عليه من حُب لهما ..وهنالك ترتبية وتسلسل في اهمية مباحث العلوم فيما بينها ..وهذه التراتبية تأتي بمقدار اهمية العلم أو المسائل التي تُبحث في نفس العلم ؛ وقد يكون السب الرئيسي لهذا التقدم والتأخر بترتب العلوم لدى لإنسان بمقدار ما تحققه له من سعادة سواء في القت الحالي أو في الأمد البعيد ..وهذا التسلسل والتفاوت بين العلوم وقضايا المبحوث عنها مما لا ريب فيه واشكال ؛ فهو امر وجداني لا يحتاج لإثباته دليل وبرهان ..ولكن ما يقع فيه من اختلاف وتقديم الأهم على المُهم في مصداق ذلك ..فقد يبحث في علم او في احد قضاياه لما يراه من اهمية لها ويترك الآخرى لعدم الحاجة..وهذا التفاوت خاضع للإنتماء المدرسي والفكري .
ومن المفاهيم التي شغلت حيز ومساحة كبيرة في الفكر الإسلامي ولا سيما في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) مفهوم الإجتهاد والتقليد الشرعي.
والبحث في هذا المفهوم يأتي مرة على رد الشبهات التي تثار حوله ..وقد يتضمن في نفس الوقت تأصيل هذا المفهوم بالبحث عن الأدلة ووزنها بالميزان العلمي..فالسؤال والإستفهام والإشكال الموضوعي كل هذا يُساهم في دفعة عجلة البحث والتحقيق في القضايا والمفاهيم ؛ لأن من النتائج المُهمة لتقدم المجتمعات والشعوب والأمم  وازدهارها فكريا حين تتكثر في اروقتها المعرفية الأسئلة.
سنتاول هنا في هذه المقالة مفهوم التقليد الشرعي وسنقسم البحث الى ثلاث محاور وعلى شكل اسئلة وكالتالي:
المحور الأول:ماهو الباعث والمُحرك اللى التقليد؟.
المحور الثاني :بعد ثبوت المحور الأول وهو الدافع والمُحرك للتقليد..هل هنالك ادلة تُثبت الإلتزام به؟.
المحور الثالث: البحث من الناحية التاريخة حول عمق هذا المفهوم .زوهل هو مُتأصل وثابت في عصر وجود الأئمة (عليهم السلام)؟.
 المحور الأول:حب المعرفة يدعو الإنسان للبحث عما يحيط به ..وحبه للكمال هو الآخر يدفع به لتخلص من ضغط الجهل ؛لمعرفة حقائق الأشياء.. ومن جملة الأسئلة ذات الأهمية والأولوية والتي لم تنفك عن الإنسان ولم تفارق تفكيره هي :
اولاً:هل لهذا الكون والوجود من خالق  وصانع ومُوجد؟.
هنا اختلفت الأجوبة ونشأت على ضوء هذا السؤال والبحث عن اجابته  مدارس فكرية..ولست الآن بصدد عرضها او وصفها وتقيمها..انما اُركزعلى ما تم الوصل إليه والإجابة في مباحث علم الكلام والفلسفة من ان لهذا الكون خالق وهو الله تعالى.
ثانياً:وبعد أن ادرك الإنسان بوجود هذا الخالق والصانع لهذا الكون ..نشأ تساؤل وسؤال آخر:ما هو النظام والقانون الأصلح والأفضل لإدارة هذه الحياة؟ سواء على مستوى الفعل والسلوك الشخصي أو مابين الأفراد؟.
هنا ايضا وقع الإختلاف وتعددت الأجوبة ..ولكن وكما تقدم في النقطة الأولى سأقتصرفي الجواب على ما توصلت إليه المدرسة الإسلامية..ببيان :أننا نحن المسلمين نُدرك ونعلم أن الله كلفنا بتكاليف شرعية شاملة لكل جزئيات حياتنا الخاصة والعامة ..والزمنا بإمتثالها وتطبيقها ..وهذه التعاليم والتشريعات والقوانين هي مصادر المعرفة عندنا.. وهي القران الكريم والسنة النبوية والتي من ضمنها احاديث اهل البيت (عليهم السلام).
ثالثاً:بالإستقراء والمُتابعة ادرك الإنسان أن عمره قصير.. وابناء نوعه يقضي عليهم الموت سواء كانوا افراد أو مجاميع ؛نتيجة الكوارث الطبيعة والأمراض وغيرها من مصادر واسباب الفتك .فعاد من جديد يسأل : هل هنالك عالم غير هذا الوجود والنشأة ؟. وما فلسفتها ؟.
 وفي حالة مُخالفة التكاليف والقوانين والتشريعات التي سنها الله تعالى..هل يترتب ضرر وعقوبة حين المُخالفة؟. وفي اي عالم ونشأة  يتحقق هذا الجزاء والإستحقاق؟.
هذه الأسئلة وما يتفرع عليها من إجابة .. دعته بان يلتزم ويُذعن بالتشريعات والقوانين الإلهية..ولكن حين مارس البحث عنها(التشريعات والتكاليف) ليُطبقها في مُجريات حياته عندما تعترضه مسألة وقضية ما ..على المستوى الشخصي والفردي او مع المجموع من ابناء نوعه ..وجد ان قسم من هذه التشريعات واضحة وبينة ..والقسم الآخر يكتنفها الغموض والإبهام ..فماذا يعمل في هذه التشريعات الغامضة او التي تحتمل عدة وجوه حين التطبيق والتي لا يمكن الجمع بينها في المسألة الواحدة؟.
هل يتوقف  ولا يلتزم من تطبيقها..ويقتصر على الواضح منها فقط ؟
او هنالك حل وبديل ..ولكن ما هو هذا البديل ؟.
ولكن لديه علم مُسبق ان من ضمنها اوامر وتشريعات على نحو الإلزام في التطبيق والعمل أو الترك وعدم الإمتثال في السلوك الخارجي.. ومُقتضى هذه المُخالفة يستلزم العقوبة..والعقل يدعوه بوجوب دفع الضرر المحتمل .فكيف لوكان الضرر مُتحصل وواقع؟!.
المحور الثاني :لغرض إمتثال لتكاليف الشرعية في دائرة الفعل الإرادي والتي لم تكن بينة وواضحة والتي ثبتت على نحو العلم الإجمالي بوجود تكاليف على نحو الإلزام ..والتي تُعتبر مُخالفتها خروج عن الموضوعية في طاعة الخالق سبحانه وتعالى.. ينبغي هنا ايجاد حل.. وهذا الحل هو ‘ما ان يتخصص الإنسان لإكتشافها ..أو يرجع لأهل التخصص.. ويكون تابع ومُقلد لهم ..فما هو الدليل على التقليد؟
والجواب :تنقسم الأدلة إلا ثلاثة اقسام وهي كالتالي:
الدليل الأول :العقل..والذي يُدرك أن عليه احكام وقوانين وتشريعات شاملة لجميع افعاله الإرادية وينبغي عليه امتثالها ..وكذلك يُدرك العقل أن متثالها يتوقف على معرفتها(والتي تناولنا عرضها في المحور الأول).ولغرض التوسعة في هذا الدليل مُراجعة ما تناوله السيد الخوئي (قدس) في كتابه التنقيح في شرح العروة والوثقى ج 1ص1.
الدليل الثاني :الظاهرة الإجتماعية البشرية والذي يصطلح عليه (باسيرة العُقلائية) ويراد بها طبيعة الناس في حياتهم بما هم عُقلاء يرجعون الى اهل التخصص والفن ..ومن تطبيقات هذه الظاهرة الإجتماعية العقلائية هو التقليد الشرعي ..والذي يُمثل رجوع غير الفقيه الى الفقيه المُتخصص ..وهذا الدليل يُشترط فيه ان تكون السيرة مُعاصرة للمعصوم ..وقد امضاها (عليه السلام)..بمعنى: لم يردع ويمنع من تطبيقها في التعدي للحقل الشرعي والديني ..كما نهى عن  العمل بالقياس.
الدليل الثالث :الأدلة اللفظية وهي على نوعين :القرآن والسنة .
أ‌-       القرآن الكريم :استدل الفقهاء على وجوب التقليد بآية النفر:(...فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) التوبة 122 ..ذهب السيد الخوئي للوجب بهذه الآية (التنقيح في شرح العروة الوثقى ج1 ص64).  
ب‌- السنة الشريفة:وهي على طوائف .
الطائفة الأولى: الأخبار المشتملة على ارجاع إلى اشخاص مُعينين أو إلى عنوان من العناوين المُنطبقة عليهم كالإرجاع الى العمري وابنه ..ويونس بن عبد الرحمن ..وزكريا بن ادم .. ومحمد بن مسلم الثقفي ..ويونس مولى آل يقطين...ولغرض المراجعة نشير الى المصادر والعناوين التالية: التنقيح في شرح العروة الوثقى ,السيد الخوئي ج 1ص70 ..مجلة فقة اهل البيت الفصلية العدد 49 ص14بحث في التقليد السيد كاظم الحسيني الحائري ..مجلة المناهج الفصلية العدد 11 ص7 دراسة فقهية لظاهرة التقليد الشرعي الدكتور عبد الله الفضلي.
الطائفة الثانية :الأخبار المُشتملة على الأمر الصريح بإفتاء بعض الأصحابهم (عليهم السلام) كقوله لأبان بن تغلب :(اجلس في (مسجد) مجلس المدينة وافت الناس فإني أحب أن يُرى في شيعتي مثلك .مراجعة نفس المصادر في الطائفة الأولى.
الطائفةالثالثة:الأخبار الناهية عن الإفتاء بغير علم وعن القضاء بالرأي والإستحسان والمقاييس..فهي على كثرتها تدل على أن المنهي عنه عندهم (عليهم السلام) هو الإفتاء بغير علم لا مطلق الإفتاء..فعن أبي عبيدة قال ,قال ابو جعفر (عليه السلام) :( من افتى الناس بغير علم ولا هدى من الله ,لعنته ملائكته الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه). التنقيح في شرح العروة الوثقى ,السيد الخوئي ج 1ص71..وكتاب مسائل من الإجتهاد والتقليد ومناصب الفقيه ص 23..الشيخ حسين النوري الهمداني.
الى هنا اتممنا ادلة التقليد الشرعي وعلى نحو الإختصار تاركين للقارئ والمُتابع الرجوع اليها واستيعابها.. وفي خاتمة المحور الثاني من ادلة وجوب التقليد الشرعي والتي يلزم منها أن نرفع اليد عن الأصل الأولي لمفهوم الحرية وعدم تقيد الأفعال الإرادية بمقتضى ما دل عليه الدليل الشرعي..نطرح السؤال التالي:
الذي ينتمي للمدرسة الإسلامية ويعتبرها هويته الفكرية والتي تُحدد معالم افعاله وسلوكياته وتصوراته على ضوء مصادر المعرفة فيها من العقل والقران والسنة الشريفة..السؤال: لماذا لا يلتزم من ثبتت بحقه هذه التكاليف الشرعية سواء تركها بأجمعها أو انتقاء العمل بعضها دون الآخر؟
الجواب: هنالك عدة اسباب ..قد يكون هذا السبب هو الدافع والمُحرك الرئيسي لباقي الأسباب..فالبرهان والدليل الذي ثبتت به قضية ما ..سواء على نحو الإلزام بالعمل أو الترك ليس هو العلة الفاعلية لتحقق النتيجة والتسليم بها والإذعان لها..بل هذه الأدلة والبراهين ما هي الا علة مُقربة ومُعدة لتحقق الألتزام بالحكم؛والسبب في ذلك أن هنالك قوى في الإنسان منها :القوة العاقلة والتي تُدرك له حقائق الأشياء ..والقوة الأخرى :هي النفس ومجموع والغرائز ..والقوتانا منفصلتين عن البعض؛ فليس بالضرورة ان تخضع النفس لمُدركات العقل العملي فيما ينبغي وما لا ينبغي عمله ..ولذا قال الحُكماء :أن البرهان وحده لا يكفي لتحقيق الإذعان بالنتيجة ..ولم يعدوا الفيلسوف حكيماً حتى يكون مرتاضاً وسالكاً طريق تهذيب النفس.
فالفقه يقع بحسب الترتيب المعرفي في المنظومة الإسلامية في المرحلة الثالثة بعد علم الأخلاق والتي يسبقهما معا العقيدة وعلم الكلام.
المحور الثالث والأخير:في هذا المحورسنتاول تاريخ التقليد الشرعي ..ومتى وجب على المسلمين ؟
وهل كان المسلمون ايام الأئمة (عليهم السلام) مُقلدين خصوصاً اولئك الذين كانوا في مناطق بعيدة عن تواجد الأئمة عليهم السلام ؟.
وهل كان الإجتهاد الحالي مُتعارف وبنفس الكيفية في زمن الأئمة (عليهم السلام)؟. هذا المحور وما يحمل من اسئلة لا يقل اهمية عن المحورين المتقدمين؛لما يُحدد به من عمق مفهوم التقليد وانه ليس طارئ اوجدته الظروف الغامضة ..هذا من جهة ومن جهة اخرى بعد ثبوت الروايات التي سنذكرها سيكون الدليل من السيرة العُقلائية  صامد من النقد والإشكال بعدم الإمضاء المعصوم (عليه السلام) او الردع عنها.
اما الأدلة على عمق هذا المفهوم من الناحية التاريخية فهي كالتالي :
اولاً: ما ذهب اليه السيد الخوئي( قدس) حيث قال: (التقليد كان موجوداً في زمان الرسول (ص) وزمان الأئمة (ع) لأن معنى التقليد هو أخذ الجاهل بفهم العالم ، ومن الواضح أن كل أحد في ذلك الزمان لم يتمكن من الوصول إلى الرسول الأكرم (ص) أو احد الأئمة وأخذ معالم دينه مباشرة ، والله العالم) نقلاً عن الدكتور عبد الهادي الفضلي في مجلة المنهاج الفصلية العدد 12 ص28.
وما تناوله ايضا السيد الخوئي (قدس) من الأدلة الروائية على اثبات وجوب التقليد وقد تناول مجموعة من الطوائف منها : عملية ارجاع للأشخاص المعينين والأخبار المشتملة على الأمر الصريح بإفتاء بهض اصحابهم (عليهم السلام).التنقيح في شرح العروة الوثقى ج1 ص 70-71.
ثانياً:ما ذكره الشهيد مطهري قائلاً: الإجتهاد – بالمعنى الصحيح  للكلمة يعني التفريع ورد الفروع إلى الأصول وتطبيق الأصول على الفروع – وقد وجد عند الشيعة في زمان الأئمة الأطهار ,والأئمة الأطهار كانوا يأمرون أصحابهم  بالتفريع والإجتهاد{يشيرالشهيد مطهري الى الروايات التي تدل على امرهم (عليهم السلام) بالتفريع على الأصول المسموعة منهم وعلى امرهم بالإفتاء منها:عن أبي عبدالله ع قال : إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا}. رؤى جديدة في الفكر الإسلامي ج8ص350.
ثالثاً: الروايات الدالة على عمق هذا المفهوم من الناحية التاريخية .. وقد نقل قسم منها الشيخ حسين النوري الهمداني وقسمها الى طوائف..حيث قال: والذي يظهر من المُراجعة إلى أخبار أهل البيت (عليهم السلام) وآثارهم ان الإجتهاد بالمعنى المُتعارف في أعصارنا قد كان مُتعارفاً في أعصار الأئمة (عليهم السلام) أيضا...والروايات التي يُستفاد هذا الأمر.. وفيها الصحاح والموثقات كثيرة .
فطائفة منها :تدل على على أمرهم (عليهم السلام) بالتفريع على الأصول المسموعة منهم (عليهم السلام) وعلى أمرهم بالإفتاء فمنها مايلي: محمد بن ادريس في آخر السرائر نقلاً عن هشام بن سالم عن ابي عبدالله عليه السلام قال: إنما علينا أن نلقي اليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا)ولا ريب أن عمدة الإجتهاد هي تفريع الفروع على الأصول ورد الفروع على الأصول.
واُخرى منها :تدل على ان الإفتاء كان شائعا في زمانهم عليهم السلام بمنظر ومسمع منهم وكان ممضى من جانبهم.

وطائفة ثالثة : تدل على تعليمهم (عليهم السلام) لأصحابهم كيفية الإستنباط من الألفاظ ولزوم حمل المجمل على المبين ، والظاهرعلى الأظهر ، والظاهر على النص .مسائل من الإجتهاد والتقليد ومناصب الفقيه ص21.